المقالات

عطش الروح في زمن الضجيج

علي قيس الشيخ زبـار لـوكالة وردنا الآن

في كل العصور، كانت الثقافة ملاذًا، ذلك الركن الهادئ الذي يلجأ إليه الإنسان هربًا من صخب العالم، بحثًا عن ذاته وسط زحام الحياة اليومية. لم تكن المعرفة يومًا مجرد وسيلة للتفاخر أو الترف، بل كانت ولا تزال الوسيلة الأهم لفهم الوجود، لتفسير المشاعر، ولإعادة ترتيب الفوضى التي تسكن العقول قبل القلوب. لكن، ماذا يحدث حين تصبح الثقافة نفسها مهددة؟ حين تتحول إلى مجرد شعارات رنانة أو إلى بضائع تُعرض على أرفف الأسواق دون جوهرٍ حقيقي؟
نعيش اليوم في عصرٍ يفيض بالمعلومات، لكنه يعاني من ندرة المعنى. كل شيء متاح بضغطة زر، آلاف الكتب تُختزل في ملخصات سريعة، والأفكار العميقة تتبخر في عناوين جذابة لكنها خاوية. صار الوصول إلى المعرفة سهلاً، لكن استيعابها صار أصعب، وكأن السرعة التي اكتسبها العالم قد أفقدته قدرته على التأمل. نحن نقرأ كثيرًا، نسمع كثيرًا، نتابع بلا توقف، لكن هل نفهم حقًا؟ هل نشعر بوقع الكلمات كما شعر بها من كتبوها؟ أم أننا أصبحنا مجرد مستهلكين لما يُعرض علينا دون أن نتذوقه حقًا؟
في زمنٍ مضى، كان الكتاب صديقًا، والمكتبة بيتًا ثانٍ، وكانت جلسات السمر تدور حول حكاية مشوقة أو قصيدة مؤثرة أو نقاشٍ فكري عميق. لم يكن التنافس على عدد الكتب المقروءة، بل على عمق التأثر بها. كان الجدل حول فكرة، وليس حول عدد الإعجابات التي تحصدها منشوراتنا. كان الناس يعشقون الحكايات الطويلة، يتأملون الشخصيات، يعايشون تفاصيلها، يحفظون العبارات التي مست قلوبهم، ويرددونها كأنها جزءٌ من ذاكرتهم الشخصية. أما اليوم، فكل شيء يجب أن يكون سريعًا، مختصرًا، قابلاً للهضم دون عناء، وإلا اعتُبر مملاً وثقيلاً.
ليس غريبًا أن نجد البعض يفاخر بعدم قراءته للكتب، أو أن يرى المعرفة عبئًا لا حاجة له به، فالثقافة اليوم لم تعد تلقى ذلك الاحترام الذي كانت تحظى به قديمًا. لم تعد الكتابة عملًا مقدسًا كما كانت، ولم يعد القارئ ذلك المتلقي الذي يطلب المزيد، بل صار يبحث عن أقصر طريق لفهم العالم، حتى وإن كان طريقًا مضللاً.
لكن رغم كل هذا، لا يزال هناك من يبحث عن الجمال، عن ذلك العمق الذي لا تمنحه العناوين البراقة ولا المحتويات السريعة. لا يزال هناك من يعيد قراءة الكتب القديمة، يتتبع أثر الكلمات التي كتبها من سبقونا، يحاول أن يفهم كيف كان العالم حين كانت الثقافة جزءًا أساسيًا من الحياة. هؤلاء هم الذين يدركون أن القراءة ليست مجرد عادة، بل هي فعل مقاومة، مقاومة للسطحية، للزيف، للضوضاء التي تحيط بنا من كل جانب.
ربما يكون السؤال الأهم اليوم: كيف نستعيد شغفنا بالمعرفة؟ كيف نعود إلى ذلك العطش الذي كان يدفعنا للبحث والتأمل؟ الأمر ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى قرار، إلى رغبة صادقة في العودة إلى الأصل، إلى القراءة لا لأنها واجبٌ أو موضة، بل لأنها حاجةٌ حقيقية، لأنها غذاءٌ لا غنى عنه.
في النهاية، كلٌ منا هو نتاج ما قرأه، ما تأمله، ما فهمه بعمق. وكلما كان الإنسان قادرًا على استيعاب ما حوله، كلما كان أكثر تحررًا وأكثر قدرةً على العيش بمعنى حقيقي. فهل نسمح للضجيج أن يبتلعنا، أم نبحث عن ذلك الصوت الخافت الذي يحمل إلينا معاني أبقى وأصدق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار